سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم {أَنْ تُتْرَكُوا} قيل: هذا خطاب للمنافقين. وقيل: للمؤمنين الذين شق عليهم القتال. فقال: أم حسبتم أن تُتركوا فلا تؤمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ولم يرّ الله {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} بطانةً وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة: وليجة خيانة. وقال الضحاك: خديعة. وقال عطاء: أولياء. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة. فوليجة الرجل: مَنْ يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي، وهم وليجتي للواحد والجمع. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي رضي الله عنه له القول. فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟.
فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟ فقال نعم: إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله.
أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها. فذهب جماعة إلى أن المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المساجد ومُرَمَّمَته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل. وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه. قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة: {مسجد الله} على التوحيد، وأراد به المسجد الحرام، لقوله تعالى: {وعمارة المسجد الحرام}، ولقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام}، وقرأ الآخرون: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام. قال الحسن: إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها. قال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين؟ ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، يريد الدراهم والدنانير؟.
قوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أراد: وهم شاهدون، فلما طرحت وهم نصبت، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلا بُعْدا.
وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول: أنا يهودي، ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنها لغير الله عز وجل، {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه شاهدين على رسولهم بالكفر؛ لأنه ما من بطن إلا ولدته.


ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} ولم يَخَفْ في الدين غير الله، ولم يترك أمر الله لخشية غيره، {فعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وعسى من الله واجب، أي: فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة.
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي، حدثنا محمد بن الحسين الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج، المهدي، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» فإن الله قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، أنبأنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا علي بن عبد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن مطرف، عن يزيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزلَه من الجنة كلما غدا أو راح».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي عن محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناسُ ذلك، وأحبوا أن يَدَعَه، فقال عثمان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة».
وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الدارابَجِرْدِيّ، حدثنا أبو عاصم بهذا الإسناد، وقال: «بنى الله له بيتا في الجنة».


قوله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، حدَّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المعافري، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، حدثنا النعمان بن بشير قال: كنتُ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليتُ دخلت، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، ففعل فأنزل الله عز وجل: {أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام}، إلى قوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال العباس حين أُسِر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، والإيمان بالله، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيرٌ مما هم عليه.
وقال الحسن، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، نزلت في علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي، ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}.
والسِّقاية: مصدر كالرعاية والحماية.
قوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فيه اختصار تقديره: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله؟.
وقيل: السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر. وتقديره: أجعلتم ساقي الحاجّ وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ وهذا كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} أي: للمتقين، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي بن كعب {أجعلتم سُقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام}، على جمع الساقي والعامر.
{كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يحيى بن مهلب، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تُغْلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، وأشار إلى عاتقه.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، حدَّثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، حدَّثني محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم؟ أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8